مقالات وأبحاث

مفهوم الوحدة الوطنية

مفهوم الوحدة الوطنية

للدكتور حسن عزوزي

تعتبر الوحدة الوطنية ركيزة من ركائز مقومات الوطن وأساسا من أسس تطوره وتقدمه وهو نتيجة تلاحم الشعب مع قيادته، كما أنها الأساس في استقرار الدولة ونمائها، يقوم عليها البناء الوطني السليم وتشكل هدف التنمية السياسية وغايتها الأولى. وهي تمثل بحق أهم الثوابت الوطنية وأكثرها إلحاحا وحيوية. إنها تبرز قصة الحضارة التي تتوالى فصولها مع تعاقب الحكم على البلاد مما يجعل من قيمة الانتماء الوطنية أمرا مسلما له جذوره التاريخية وامتداداته التي تَشَكل نظام البيعة لحمايتها وضمان استقرارها. وتعتبر الوحدة الوطنية قيمة من القيم الوطنية الخالدة التي يعمل الجميع شعبا وحكومة وقيادة على تقويتها والحفاظ عليها، فهي من مكتسبات الوطن ومعيار التميز والاعتبار.

وإذا كان القانونيون يعرفون الوحدة الوطنية بأنها اتحاد مجموعة من البشر في الاقتصاد والاجتماع والتاريخ والهوية في مكان واحد وتحت راية حكم واحد فإن مفهوم الوحدة الوطنية في البلد الإسلامي الذي يستمد الحكم فيه مشروعيته من الاسلام يتجاوز المفهوم القانوني السائد وذلك باعتبار الدين مكونا أساسا من مكونات الوحدة الوطنية، كما أن راية الحكم لا يستظل بها أي حاكم وإنما يستظل بها إمام بايعته الأمة وفق الشروط الدينية المنصوص عليها والتي تصطبغ بمجموعة من العوامل التي تعد من مسلمات الوحدة الوطنية، من ابرزها:

  • قيامها على نظام البيعة الذي هو عقد حقيقي يتم بين الحاكم والامة يستمد منه الحاكم سلطته وتترتب عليه التزامات لعلها أبرزها التعاون بين الطرفين من أجل تحقيق الوحدة الوطنية
  • استمرارها نتيجة تاريخ عريق يجسد روابط تاريخية عميقة ربطت عبر الأجيال أسرة حاكمة بشعبها وفق أبهى صور التلاحم والتوافق والتراضي.
  • قيامها على وحدة المذهب والعقيدة والسلوك في استناد تام إلى الكتاب والسنة.
  • تعزيز الأمن بالصورة التي تجعل البلد بمنأى عن الاضطرابات والفتن والفوضى. وتعتبر المحافظة على الأمن بجميع أشكاله مقوما مهما من مقومات الوحدة الوطنية.
  • ترسيخ ونشر قيم المحبة والألفة والتسامح بين أبناء الوطن ونبذ مظاهر العنف والشقاق والخلاف.
  • ازدياد التعلق بالوطن لازدياد الطمأنينة فيه، وهي الطمأنينة الباعثة على الإقبال على التعمير النافع وتحقيق الرخاء والازدهار للوطن. والنصوص الشرعية الدالة على أن محبة الأوطان جزء من الإيمان كثيرة ووفيرة نذكر منها ما رواه أنس بن مالك رضي الله عنه قال:” كان رسول الله صلى الله عليه وسلم اذا قدم من سفر فأبصر درجات المدينة أوضع ناقته -أي أسرع بها- وإذا كانت دابة حركها.”([1]) قال الحافظ ابن حجر في الفتح:” وفي الحديث دلالة على فضل المدينة وعلى مشروعية حب الوطن والحنين إليه.”([2])

مفهوم المواطنة

لا شك أن المعنى الفطري المتمثل في احتياج الأفراد إلى الاجتماع في جماعة هو المعنى الذي أسس الاسلام عليه بناءه في تدبير علاقات الناس بعضهم ببعض كقول الله عز وجل (ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون)([3])  وقوله تعالى (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا )([4]) ولتحقيق معنى الوحدة والاعتصام وعدم التفرق والتحزب بنى الإسلام اجتماع الناس على مراعاة الحاجة إلى إمام يسوس الجماعة بعد مبايعته وتفويض الأمر  إليه ، ولذلك استعمل الرسول صلى الله عليه وسلم معنى مفارقة الجماعة في الحديث القائل ” من خرج عن الطاعة وفارق الجماعة ثم مات مات ميتة جاهلية”([5])  فمساكنة الناس بعضهم لبعض في اطار الجماعة ينشأ عنها مدلول المواطنة بما هي انتماء للوطن تترتب عليه حقوق وواجبات تذلل سبل المشاركة المجتمعية بشرط مراعاة القيم المعينة على التنمية بما يجعل المواطنة بناء على ذلك قائمة على كل من العناصر الاتية:

  • انتماء أساسه محبة الوطن الحاملة على الارتقاء به وحب رؤيته فوق سائر الأوطان من غير تعصب مانع من الانفتاح والتعرف على الغير مصداقا لقوله تعالى(يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير)([6]) فالانتماء الوطني يسمو على مختلف الانتماءات والولاءات الأخرى، فالوحدة الوطنية والانتماء الوطني كلاهما لا يتناقض مع التعددية بل يفرضها ويزدهر من خلالها على أن تجري هذه التعددية بمظاهرها وتفاعلاتها من خلال إطار يحترم سمو الهوية الوطنية على مختلف الهويات واحترام الانتماء الوطني والولاء للوطن من قبل جميع الأفراد والجماعات على اختلاف ولاءاتهم وانتماءاتهم.

والوطن ليس مجرد خريطة ترابية فحسب، ولكنه – فوق ذلك- انتماء حضاري وتراكم تاريخي ونظام سياسي ومنظومة متكاملة ومنسجمة، والحفاظ عليه وتنميته – بهذا المعنى- هو حفاظ على الوجود الحضاري وتنمية له.

  • مشاركة مجتمعية أساسها ملاحظة ما تتحصل به الكفاية فيما تتقوى به الجماعة فكل إسهام يخدم الوطن وتترتب عليه مصالح دينية أو دنيوية تتعين المشاركة فيه قال تعالى( وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الاثم والعدوان)([7]) فملاحظة معنى احتياج المصالح العامة دينية ودنيوية إلى تكاثف الجهود هو الذي لأجله جاء الاسلام بمحاسن التشريعات.
  • قيم ناظمة للمواطنين، وهي قيم تسهم في تنمية الوطن، أساسها الإخلاص المنافي للانتهازية. والصدق المنافي للغش والخداع والتعاضد المنافي للتفرق والتشرذم، ولذلك يقول العلامة ابن عاشور “لا يكاد ينتظم أمر الاجتماع كمال انتظامه ولا ترى الأمة عقدها مأمونا من انفصامه ما لم تكن مكارم الأخلاق غالبة على جمهورها وسائدة في معظم تصاريفها وأمورها”([8])

آليات تحقيق الوحدة الوطنية

تعتبر الوحدة الوطنية من أهم الثوابت الوطنية التي تحظى بالأولوية على كثير من الاهداف والغايات الوطنية الاخرى،  وهي ترتكز في مفهومها على ركيزتين أساسيتين:

الأولى: الجانب المعنوي او السيكولوجي الذي يرتبط بالمواطنين ووحدتهم وتماسكهم أي ما يتعلق بتعظيم الروابط التي تشكل نسيج الانتماء وقوام اللحمة بين عناصره ومكوناته، وأساس هذه الروابط دائما الانتماء وحب الوطن والرغبة في العيش المشترك.

الثانية: الجانب المادي القانوني الذي يرتبط بالأساس بوحدة الدولة وتكاملها وقيام نظم قانونية ودستورية ومؤسساتية تكفل الحفاظ على وحدة الوطن وتماسك الشعب وترابط مقوماته.

من هنا تأتي أهمية الوحدة الوطنية في استقرار الدولة ونمائها. وأي مساس بها من شأنه أن يقوض السلم الاجتماعي وبالتالي تراجع عملية التنمية السياسية برمتها. واذا كانت هناك اختلافات بين جماعات تنتمي إلى نفس الوطن لكنها تختلف في تكوينها وطبيعتها فإن الأمر يتطلب توفير سبل التعايش في اطار من التسامح والحرية المسؤولة بين مختلف التكوينات والجماعات على اختلاف طبيعتها والولاءات التي تمثلها، وهذا الإطار من التسامح يستدعي حتما نبذ العنف والتطرف والتخلي عن أساليب الكراهية مع احترام الخصوصية والهوية الوطنية وما يمثله ذلك من أولوية تقدم على كافة الولاءات والانتماءات الأخرى في الدولة.

ولتحقيق ذلك التماسك والتكامل تبرز وسائل وأساليب متعددة تدور كلها حول تعميق الرغبة في العيش المشترك بين مختلف مكونات وقطاعات المجتمع والعمل على تلطيف حدة الاختلافات بين العناصر والشرائح المتنوعة بما يجعل التعدد والتنوع مصدر غنى وقوة وليس مصدر تهديد أو تقويض تعاني منه الدولة. ويمكن الاشارة إلى مجموعة من أدوات التنشئة وآليات تحقيق الوحدة الوطنية من خلال ما يلي:

أولا: الأسرة، وتعتبر أهم المؤسسات الاجتماعية التي تنتج الوجدان الثقافي والتربوي عن طريق مجموع القيم والاخلاق التي تنشرها على سائر افرادها وتلقنهم اياها على اعتبار كونها تشكل الآداب العامة الواجب مراعاتها والمقدسات الاجتماعية التي ينبغي احترامها والالتزام بها، والأسرة هي التي تتولى صياغة شخصية الطفل فتخلق لديه منذ طفولته أبجديات ولائه وانتمائه وأولويات توجه مشاعره وتشكيل وجدانه التي تنمو وتتطور لديه لتجعل منه المواطن الصالح الذي ينشده المجتمع.

ثانيا: الخطاب الديني

يعتبر الوطن وحدة منتجة تتداخل فيها عدة عناصر عبر التاريخ لغوية ومعرفية وثقافية لكن يبقى الدين هو الساهر لها جميعا تحت إمرة الحاكم في نسيج اجتماعي واحد، لذلك فالخطاب الديني هو الأجدر بحمل رسالة تعزيز الوحدة الوطنية بما يملكه من إمكانات روحية في التخليق بالتصورات والمفاهيم المنشودة. فالمؤطر الديني عليه ان ينخرط في المحافظة على النسيج الاجتماعي للوطن ويعمل على تقويته وتنميته وتعزيز مفهوم (الرحم الوطنية) بما يدل عليه من وحدة النسيج الاجتماعي ووحدة الوطن.

ولا شك أن قيام المؤطر الديني بتعزيز الوحدة الوطنية والمواطنة بمرجعيتها الدينية يعتبر من أهم  المعالم التي يجب أن تؤطر العمل الإرادي والتوجيهي في عصرنا، والوطن بما يصطبغ به من خصوصية ذاتية على كل المستويات العمرانية والدينية والثقافية والسياسية والاجتماعية في حاجة إلى خدمة دائمة في هذا الجانب أي التربية على ترسيخ وتعزيز المفاهيم المرتبطة بوجود خصوصياته([9])

ثالثا: الاعلام: ولا تخفى أهمية الدور الذي يقوم به الاعلام المكتوب والمرئي والمسموع في توحيد صفوف الأمة وتماسكها وترابط عناصرها خصوصا في وقت الازمات فضلا عن دوره في تعزيز وحدة الوطن وسيادة الدولة وسموها وحماية عزيز التماسك مقدساتها واركانها الاساسية، ويتعاظم دور الاعلام في توجيه الشباب وتوعيتهم في مجال تعزيز التماسك الوطني وتقوية الشعور بالانتماء والولاء للوطن كولاء ذي اولوية على ما عداه من ولاءات وانتماءات.

رابعا: التعليم،  حيث تعمل المؤسسات التعليمية بمختلف مستوياتها على نحو مهني ونظامي على غرس وتطوير قيم المواطنة وحب الوطن وخاصة في المستويات التعليمية الابتدائية والثانوية التي تحرص على تربية التلاميذ على التشبت بالهوية الوطنية واحترام الانتماء الوطني والولاء للوطن وتنميته من خلال ترسيخ قيم الاخلاص والصدق والوفاء والتماسك ونبذ عوامل العنف والتطرف والخيانة والكراهية.

لذلك فالمؤسسات التعليمية التي هي بالدرجة الأولى مؤسسات تربوية تمثل الملاذ الروحي والمعرفي للتلاميذ والطلاب وتقوم بتزويدهم بالقيم الدينية والوطنية الملائمة التي تدفعهم الى الاعتزاز بالهوية الدينية والوطنية والتشبع بمبادئ الوحدة الوطنية مع القدرة على تمثلها وتعزيزها.

  • – رواه مالك في الموطأ، كتاب الحج، باب: من أسرع ناقته إذا بلغ المدينة.[1]

 فتح الباري لابن حجر العسقلاني:3/727[2]

[3] – الروم: 31-32.

– ال عمران103[4]

 -رواه مسلم في صحيحه، كتاب الإمارة، باب لزوم الجماعة عند ظهور الفتن.. رقم الحديث 1848.[5]

– الحجرات13[6]

– المائدة:3.[7]

 اصول النظام الاجتماعي في الاسلام ص 123[8]

 دليل الامام: مرجع سابق : ص 74[9]