مقالات وأبحاث

نفحات من بيت النبوة



نـفــحـات من بــيت النبوة

 

لما حصل لي شرف الدعوة الكريمة من رئاسة المجلس العلمي الموقر في شخص سيدي حسن عزوزي القريب من القلب للإسهام بموضوع في السيرة النبوية العطرة، بادرت إلى الاستجابة دون تردد ووجدت نفسي في حيرة من أمر اختيار موضوع يتناسب مع المدة الزمنية المتاحة للإنجاز والحيز المسموح به للإلقاء.

ولم أجد مخرجا من تلكم الحيرة إلا باعتماد مادة علمية دسمة كان قد عهد إلي زميلي الأستاذ الدكتور سيدي محمد علوي بنصر مهمة مراجعتها عليه فكفاني، بعد استئذانه عناء استجماع النصوص والشواهد وفرغني لمهمة استنطاقها وقراءة ما بين السطور عل السامع والقارئ تهب عليه من نفحات بيت النبوة ما يشع عليه من أنوارها وأسرارها ما ينفعه بإذن الله تعالى في بيته ونشاطه فيه أسوة بسيد المرسلين صلى الله عليه وسلم.

وقد تضمن عرضي هذا عناصر أربعة:

1: حالة بيته ونمط عيشه عليه الصلاة والسلام

2: حاله صلى الله عليه وسلم في بيته

3: أمهات المؤمنين مكانتهن وحاله عليه السلام معهن

4: حاله عليه السلام في ذريته

  • أولا: بيته عليه الصلاة والسلام ونمط عيشه

كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم تسعة بيوت، بعضها من جريد مطين وبعضها الآخر من حجارة موضوع بعضها فوق بعض، والجامع بينها جميعا طابع البساطة مع سعة المرافق؛ بساطة في البناء وبساطة في الأثاث وبساطة في المؤنة والمطعم، وإيثار للعيش على الكفاف والزهد، هذا مع إمكان أخذه من الخمس ومن مال الفيء ما شاء دون غيره، وما ذلك إلا حرصا منه عليه السلام على إنفاق المال في ما عساه أن يعود على الأمة بالنفع والخير فكان في ذلك أسوة لمن سيخلفه في أمته.

وكان من ذلك أنه ما شبع ولا آله من طعام قط ثلاثة أيام تباعا حتى قبض عليه الصلاة والسلام. بل إنه لم يكن يجد أحيانا ما يملأ به جوفه من الدقل، وهو أكرم الناس.

هذا ولم يكن تقشفه عليه السلام هدفا في حد ذاته، ولا هو فرض من فرائض الدين، وهو أغنى الناس نفسا، وإنما آثر ذلك ليكون الأسوة الحسنة في القدرة على الحياة بأقل القليل وأيسر اليسير، لا يستعبده مال ولا متاع، بحكم كونه صاحب رسالة لا طالب ملك ولا راغبا في متاع فحسبه من دنيا الناس هذه أن إذا جاع تضرع إلى مولاه، وإذا شبع حمد ربه وذكره، وماذا يضيره أثر الحصير في جنبيه وقد رفلت ملوك زمانه في النعيم ما دامت قد عجلت لهم طيباتهم وقد آثر ما عند الله …

فلا عجب أن ترغب فيه السيدة خديجة زوجا لها لما رأت فيه من الصدق والأمانة، وأن تؤثر السيدة مارية القبطية الإقامة معه بالمدينة المنورة على حاله تلك وقد خلفت وراءها بمصر، حيث كانت تقيم، قصورا فارهة ذات زرابي مبثوثة وستائر فاخرة وحدائق غناء وضياعا ومنتزهات.

كيف لا وقد مدحه خالقه بقوله: ” وإنك لعلى خلق عظيم ” {القلم:4} أية درجة أسمى من تلك من تلك التي نالها أفضل الرسل والأنبياء خلقا وخلقا وخير من صام وقام وتهجد وشكر وحمد وشكر وصفح وعفا وأكرم ووفى وحفظ الأمانات وعد ذلك من علامات الإيمان فلنعم البيت بيته صلى الله عليه وسلم ولنعم ساكنه:

بيوت العز يبنيها الكرام وبالأخلاق يرتفع المقام

فكم من مالك بيتا بسيطا إذا ما جاء للأسياد قاموا

وكم من مالك بيتا كبيرا وتبغضه المحلة والأنام

البساطة أضحت اليوم فنا وقد قيل “البساطة عين الجودة” وتبسيط الحياة من شأنه أن يغنيها وإنما باشر رسول الله صلى الله عليه وسلم حياة بأدنى متطلباتها المادية لإبراز القيم الروحية والخلقية في أسمى تجلياتها.

  • ثانيا: حاله صلى الله عليه وسلم في بيته

ما كان له عليه الصلاة والسلام، وهو صاحب الرسالة العصماء، أن يزاول “الزهد السلبي”؛ وذلك بأن ورعه وتعففه وهيبة النبوة، كل ذلك لم يمنعه الإسهام في أعمال البيت والنهوض بأعبائه إلى جانب زوجاته فلم يستنكف عن إزاحة القمامة وتأمين العلف للماشية وحلب الشاة وخصف نعله وترقيع ثوبه، ولا عن اعانة الخادم والأكل معه أحيانا، ولا هو ترفع عن حمل حاجاته من السوق …

ثم إلى جانب ذلك كله تجده يعظ ويوجه ويهذب ويقدم المثل الأعلى لكل ما يدعو الناس إليه، فضلا عما عهده الناس فيه من بشاشة وسماحة وطيبة نفس وحلاوة منطق وعذب كلام.

وكان لهذه السجايا المحمدية حضورها القوي في بيت النبوة، فقد كان عليه السلام يبدي وده لأزواجه ويشفق أن يرى نساءه غير باسمات مبتسمات وكن بدورهن يشفقن أن يرينه غير منبسط وقد أنساهن برقته ولطفه أنهن يخاطبن نبيا مرسلا فكن يتسابقن في إظهار المودة له ولا يتحرجن من مراجعته عليه الصلاة والسلام، وهو المعصوم؛ فقد جاء في صحيح البخاري أن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها غضبت مرة فقال لها:

أترضين أن يحكم بيننا أبو عبيدة بن الجراح؟ فقالت: لا، هذا رجل لن يحكم عليك لي، فقال: أترضين بعمر؟ فقالت: لا، أنا أخاف عمر، فقال: أترضين بأبي بكر؟ _ يقصد أباها _ قالت: نعم.

وقد ظل ذلك مضرب مثل بين نساء المومنين على الدوام؛ فهذا عمر رضي الله تعالى عنه، وقد ضجت عليه زوجه فراجعته فأنكر عليها ذلك فقالت: لم تنكر أن أراجعك؟ فوالله إن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ليراجعنه فلا يغضب.

وكان عليه السلام متى عاد من السفر أعلم أهله بوصوله؛ وإنما فعل ذلك كي تستعد النساء لاستقبال أزواجهن فتمشط الشعثة وتستحد المغيبة ولم يكن يسمح لواحدة من زيجاته أن تنتقص من شأن الأخرى، فيسارع إلى رد الاعتبار للمطعون فيها بذكر محاسنها وذكر نقائص الطاعنة دفعا لغرورها هذا وما ذكرناه عن تلكم المراجعة لا يخدش في عصمة النبي صلى الله عليه وسلم أو ينتقص من شأن أمهات المؤمنين رضي الله تعالى عنهن، فهن أكمل النساء وإنما حدث ذلك تشريعا للأمة وإقرارا لمبدأ المراجعة في بيت الزوجية

  • ثالثا: أمهات المؤمنين مكانتهن وحاله عليه السلام معهن يراعي وضعهن

لقد اجتمع الحسب والنسب والتقى والطهر والعفاف والجود والكرم، وحسبهن زكاء أن نزل في حقهن قرآن كريم مبرزا فضلهن على سائر النساء عامة وعلى نساء المؤمنين بوجه خاص: قال تعالى في حقهن: ” يا نساء النبيء لستن كأحد من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولا معروفا وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله، إنما يرد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا ” {الأحزاب: 32 ـ 33}

وذلك أن منهن من نزل الوحي في بيتها، كأم المؤمنين خديجة، والسيدة عائشة أم المؤمنين وأم سلمة رضي الله عنهن جميعا فما من زوجة من ازواجه عليه الصلاة والسلام إلا وقد حازت من التقى والكرم الحظ الوافر؛ فمنهن من كانت مضرب المثل في الصدقة والإطعام كأم المؤمنين زينب بنت جحش التي لقبت ب “أم المساكين” إلى جانب كونها الأواهة الخاشعة المتضرعة وكانت، إلى جانب ذلك، صناع اليد تدبغ الجلود وتخرز وتتصدق من كسب يدها.

وكانت حفصة رضي الله عنها أنموذج المرأة الصوامة القوامة، وكان لها من حصافة الرأي ما أسعفت به رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحرج المواقف وكان الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يقيم بينهن، فتجده صابرا على حدة طبع أم المؤمنين سودة بنت زمعة، مراعيا لمتطلبات نعومة أظفار أم المؤمنين “عائشة “رضي الله تعالى عنها حين سمح لها باللعب مع بنات الأنصار ولبى رغبتها في ما لا محظور فيه وتابعها عليه؛ فلقد سمح لها بمشاهدة الأحباش يلعبون في مسجده عليه السلام وهي متكئة على منكبه تنظر إليهم.

  • رابعا: حاله عليه السلام في ذريته

حبب لرسول الله صلى الله عليه وسلم التوالد والتكاثر ورغب أمته فيهما. وكان له من ام المؤمنين خديجة زينب ورقية وأم كلثوم، اللواتي فقدهن، وفاطمة رضي الله عنها.

ومضى عقد من الزمن وزيادة قبل أن تلد له إحدى زوجاته ما عساه أن يجد فيه عزاء عن فقد البنات الثلاث ثم ازدان فراش الزوجية بإبراهيم ولم تكد تكتمل فرحته بطلعته حتى اختاره الله لجواره فصبر واحتسب.

وكان عليه الصلاة والسلام أنموذجا للأبوة الرحيمة فغمر سبطيه من ابنته فاطمة، الحسن والحسين، بحنانه وحبه، يقبل ويداعب ويجلسهما على ركبتيه ويحتضنهما في صدره ويحمل أحدهما في صلاته …