بسم الله الرحمن الرحيم
قراءة في مفهوم “التعارف المتبادل” في الخطاب الملكي أثناء الزيارة البابوية
للدكتور حسن عزوزي رئيس المجلس العلمي لإقليم مولاي يعقوب
شكل خطاب أمير المؤمنين جلالة الملك محمد السادس حفظه الله أمام بابا الفاتيكان ومتابعة العالم بأجمعه المسيحي منه على وجه الخصوص رسالة سلام ووئام وأخوة إلى عالم يموج بالمتغيرات والتحديات خاصة على مستوى تفشي وتفاقم ظاهرة الكراهية وسياسة رفض الآخر.
من هنا جاء تأكيد جلالته حفظه الله على ضرورة تطوير لقاءات الحوار بين الأديان علما بأن الديانات السماوية الثلاث لم توجد فقط للتسامح فيما بينها بما ينطوي عليه مفهوم التسامح من رغبة في التجاوز والصفح وإنما وجدت لانفتاح بعضها على البعض وللتعارف فيما بينها في سعي دائم للخير المتبادل. ولعل من المثير للانتباه لكل متأمل لبيب في فقرات الخطاب الملكي تردد مصطلح ” التعارف المتبادل” ست مرات ضمن سياقات مختلفة، وهو ما يترجم أهمية المفهوم وأبعاده الدلالية في زمن ما أحوج العالم فيه إلى مزيد من التواصل الحضاري والتعارف الديني والثقافي.
التعارف مبدأ قرآني أصيل
إن تأكيد جلالة الملك حفظه الله على إبراز مفهوم التعارف في خطابه التاريخي والدعوة إلى تأسيسه وتوظيفه من أجل تعزيز الوعي باختلاف الآخر والاجتماع معه على كلمة سواء هو استلهام من المبدأ القرآني الخالد والقاضي بضرورة التعارف بين الشعوب والقبائل، ومن ثم بين الحضارات والثقافات، حيث لم يفت جلالته الاستشهاد بآية التعارف من سورة الحجرات ” يا أيها الناس انا خلقناكم من ذكر وانثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم”([1]).
ومن الواضح أن الآية تتضمن الإشارة إلى أبعاد إنسانية ومبادئ حضارية عامة تؤسس لمبدأ التعارف بين الأمم والشعوب والحضارات، فالتنوع بين الناس إلى شعوب مختلفة وامتدادهم على ربوع الأرض لا يعني أن تنقطع أواصرهم ويعيش كل شعب في عزلة عن الشعوب الأخرى، كما لا يعني هذا التنوع أن يتناكروا ويتنازعوا وإنما ليتعارفوا.
إن أجزاء الآية القرآنية تشكل مرتكزات أساسية لتعارف أتباع الديانات والحضارات المختلفة. ويمكن الكشف عن هذه المرتكزات الأساسية والمبادئ الإنسانية الكلية في هذه الآية وفق ما يلي:
- إن نداء الآية خطاب إلى الناس كافة، وإذا كانت سورة الحجرات من السور المدنية التي يتوجه فيها الحديث من أولها إلى آخرها لجماعة المومنين بلسان (يا أيها الذين آمنوا) فإن هذا الحديث القرآني تغير في هذه الآية بشكل استثنائي ليتحول الخطاب إلى الناس كافة بلسان (يا أيها الناس).
- يتوجه الخطاب في الآية الكريمة الى جميع الناس يصرف النظر عن معتقداتهم ولغاتهم وأعراقهم وأجناسهم، فالآية تذكر بوحدة الأصل الإنساني للبشر (انا خلقناكم من ذكر وأنثى) وهو ما ينبغي وعيه من أجل أن ينظر الناس لأنفسهم على أنهم أسرة إنسانية واحدة توجب نبذ العصبيات والاحقاد، فوحدة الأصل الإنساني في المفهوم القرآني لا تلغي التنوع والتعدد ولكنها توجب التعارف وعدم التقاطع، ويمثل هذا الأمر-بدون شك-أقوى سبيل أخلاقي للتخلص من نزوعات الكراهية والعنصرية ونبذ الآخر.
- قوله تعالى (وجعلناكم شعوبا وقبائل) فيه إقرار بالتنوع الثقافي والديني الذي ينبغي أن يكون محكوما بمبدأ التعارف والذي هو تعارف بين الجماعات والمجموعات البشرية، وهذا ما أثبته تاريخ الاجتماع الإنساني في مختلف مراحله وأطواره ومحطاته الحضارية.
- عبرت الآية بصيغة التفاعل (لتعارفوا) التي تشير إلى عملية التبادل والتواصل بين الجماعات من أجل تحقيق التعارف المتبادل، وهذا التعارف يقتضي التآلف كما جاء في الحديث النبوي “الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف” ([2])
حوار وتعارف متبادل بين الإسلام والمسيحية
في إشارة ذكية إلى أول محطة شهدها تاريخ الإسلام في التعارف بين الإسلام والمسيحية ذكر جلالة الملك حفظه الله في خطابه أمام بابا الفاتيكان قصة هجرة المسلمين إلى الحبشة قائلا: “وقد وأردنا أن تتزامن زيارتكم للمغرب مع شهر رجب الذي شهد إحدى أكثر الحلقات رمزية في تاريخ الإسلام والمسيحية، عندما غادر المسلمون مكة المكرمة بأمر من النبي محمد صلى الله عليه وسلم ولجأوا فرارا من الاضطهاد إلى النجاشي ملك الحبشة المسيحي، فكان ذلك أول استقبال وأول تعارف متبادل بين الديانتين الإسلامية والمسيحية وها نحن اليوم نخلد معا هذا الاعتراف المتبادل من أجل المستقبل والأجيال القادمة.”
إن الذي ينبغي تأمله في قصة الهجرة إلى الحبشة ليس فقط ترحيب النجاشي بالمهاجرين المسلمين وما يعكسه من مودة وحماية وتوفير الأمان والسلام، وإنما كذلك موقف الرسول صلى الله عليه وسلم حينما لم يجد حرجا في أن يرسل أصحابه إلى ملك نصراني عادل لا يظلم عنده أحد، فالموقفان معا يعبران عن لحظة التعارف المتبادل بين الديانتين الإسلامية والمسيحية وهو ما لخصته مولاتنا أم سلمة (ض) عندما قالت: نزلنا بخير دار إلى خير جار، أمنا على ديننا ولم نخش منه ظلما”.
وبمثل ما استقبل النجاشي وفد المهاجرين من الصحابة استقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد نصارى نجران في رحاب المسجد النبوي بالمدينة المنورة، وقد قدموا برئاسة الاسقف أبو حارثة بن علقمة ليحاوروا النبي صلى الله عليه وسلم في أمر الرسالة. وتذكر كتب السيرة أنه لما حان وقت صلاتهم قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم”: يا محمد، إن هذا وقت صلاتنا وإنا نريد أن نؤديها” فقال لهم: دونكم هذا الجانب من المسجد صلوا فيه”.[3] ولم يجد النبي عليه السلام ولا الصحابة أدنى حرج في أن يصلي المسيحيون في المسجد النبوي.
إن قضية الحوار بين الإسلام والمسيحية تعتبر من القضايا الجوهرية في علاقات الإسلام بباقي الديانات في عصرنا الراهن، وقد جاءت الدعوة إلى الحوار مع أهل الكتاب في القرآن الكريم من خلال المبادرة إليه من جانب المسلمين مما يعني أنه يجب على المسلم أن يكون أكثر حرصا عليها من الآخر، قال تعالى (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون) ([4])
وبصفته أميرا للمؤمنين فقد حرص جلالة الملك حفظه الله أثناء لقائه بقداسة البابا يوحنا بولس الثاني ([5]) بحاضرة الفاتيكان على إثارة موضوع الحوار الإسلامي – المسيحي في واقعه الراهن وما يتطلبه تفعيله وتعزيز آلياته من حرص أكيد من الطرفين الإسلامي والمسيحي على الانتصار للقيم الدينية النبيلة التي تشترك الديانتان السماويتان في الدعوة إليها وحمايتها، يقول جلالته: ” وقد حرصنا خلال لقائنا بقداسة البابا يوحنا بولس الثاني على تأكيد إرادتنا الراسخة كأمير للمؤمنين في العمل سويا مع قداسته من أجل تعايش الديانات السماوية والحوار المثمر بين الإسلام والمسيحية ضمن كلمة سواء لا نعبد فيها إلا الله وننتصر فيها لقيمها النبيلة القائمة على الحرية والسلام والعدل والفضيلة”.
إن الإشارة الملكية السامية إلى الحوار المثمر بين الإسلام والمسيحية ضمن كلمة سواء يفهم منها أن بدء الحديث والحوار بمواطن الاتفاق طريق إلى كسب الثقة وفشو روح التفاهم والتعاون. وإذا كان الغرب المسيحي الذي هو طرف في الحوار مع الإسلام كدين وحضارة يرتكز على رصيد ديني من أصول وتعاليم النصرانية فإن الاهتمام بنقاط الاتفاق وتقريرها يفتح آفاقا من التلاقي والقبول والإقبال، وقد كان الإسلام سباقا إلى تقرير هذا الأسلوب من الحوار مع الآخر، إنه أسلوب قرآني يتحدد على وجه الخصوص في حوار أهل الكتاب من اليهود والنصارى، قال تعالى ( وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون) ([6])
وللإشارة فإن اجتماعات المجمع الفاتيكاني الثاني ما بين 1962 و 1965 قد نجم عنها توجه جديد لدى الكنيسة الكاثوليكية في العلاقات مع الإسلام، وكان للمقررات التي أصدرها هذا المجمع الأثر الحاسم في إيضاح موقف الكنيسة من الإسلام والمسلمين حيث جاء فيها ما يلي: ” تنظر الكنيسة باحترام شديد إلى المسلمين الذين يعبدون الإله الواحد، وهم يسعون جهدهم في الالتزام بنصائحه ووصاياه والخضوع لها …إلا أنه وبعد حدوث خلافات على مر العصور الماضية بين المسيحيين والمسلمين فإن المجمع المقدس يهيب بالجميع ترك الماضي جانبا، ويحثهم على بذل الجهود للمزيد من التفاهم والعمل المشترك من أجل حماية التقدم والعدالة الاجتماعية والقيم الأخلاقية ) [7](
تعزيز سبل التعارف
ضمن جلالة الملك حفظه الله في رسالته السامية يوم 30 شتنبر 2013 إلى المشاركين في الندوة الدولية بفاس حول تعزيز الحوار بين الحضارات واحترام التنوع الثقافي مجموعة من الأفكار الهادفة والتوجيهات النيرة في مجال البحث عن سبل تعزيز الحوار بين أتباع الديانات، من ذلك تأكيده حفظه الله على أهمية العمل على تعزيز سبل التعارف والتفاهم والتواصل بين الشعوب، حيث قال جلالته:”…لذا فإن الواجب الأخلاقي يقتضي العمل على تعزيز سبل التعارف والتفاهم والتواصل بين الشعوب واستثمار التنوع الثقافي كرافعة لإغناء الحضارة الإنسانية بدل جعله سببا للتنافر والكراهية، فنجاح أي مبادرة للحوار الحضاري يظل رهينا بهذا الشرط الأساسي.”
إن تأكيد جلالته حفظه الله على أهمية تعزيز سبل التعارف والتواصل بين الشعوب قبل عقد جلسات الحوار الحضاري ينطلق من خبرة عميقة بقضايا الحوار الحضاري في عصرنا الحاضر يستنتج منها أن الدعوات إلى حوار حضاري لم تؤت أكلها الكامل ولم تنجم عنها نتائج ملموسة وواقعية على كافة المستويات، وذلك راجع بالأساس إلى عدم اكتشاف خصائص ومميزات وقيم الحضارات الأخرى وخاصة من جانب الحضارة الغربية تجاه الحضارات الأخرى ومنها الحضارة الإسلامية التي يكاد يُجهل عنها كل ما يرتبط بتعاليم ومبادئ الإسلام السمحة وقيمه ومثله السامية التي تمثلها النسبة الغالبة من المسلمين في كل أرجاء العالم التواقة إلى السلم والأمان والتعايش مع الآخرين وتبادل المصالح والمنافع في أخذ وعطاء دائمين. لذلك فإن كل انفتاح حضاري لابد أن يرتبط بضرورة ربط أواصر التعارف المتبادل كما دعا إلى ذلك جلالة الملك حفظه الله، فبسبب التعارف لا يبقى الآخر مجهولا ومن ثم مصدرا مسببا للخوف. فنحن نخشى الآخر ما دمنا نجهله فإذا ما عرفناه لم يعد كذلك، وإذا تحررنا من عقدة الخوف من الآخر أمكننا تقبل وجوده بل قبول التعايش معه.
إن مصطلح ” حوار الحضارات” يكاد يفرغ من مضمونه ومحتواه الصحيح لأنه يقوم في أغلب الأحيان على أساس من التعارف المسبق الكفيل بانفتاح كل طرف على الآخر، فنجاح أي مبادرة للحوار الحضاري يظل – كما يقول جلالة الملك حفظه الله- رهينا بشرط التعارف المسبق . وباحترام هذا الشرط يمكن فتح نوافذ التعارف بهدف تقريب الشقة بين مختلف الحضارات والثقافات وجعلها ينفتح بعضها على بعض في سعي حثيث نحو تلاقح متميز وتفاهم مفيد ومثاقفة مجدية وفعالة. كل ذلك مع الاعتراف بوجود مساحات الاختلاف بين جميع الحضارات والأديان وتمتع كل واحدة بخصوصياتها ومميزاتها مما لا يسمح بأدنى محاولات الاختراق الدينية.
إن كثيرا ممن يجلسون إلى طاولة الحوار الحضاري يعبرون عن ضعف فهم وقلة تمثل حقيقي لمبادئ الإسلام وقيمه وهذا ما يجعل عقلاءهم في لقاءات حوارية متعددة يعترفون في كثير من الأحيان عندما تتبين لهم حقائق الأمور بأنهم يجهلون الشيء الكثير عن حضارة الإسلام ومثله مما يستلزمهم التعرف أكثر على مبادئ الإسلام الصحيحة وتعاليمه الروحية وحضارته الإنسانية القيمة، ولعل هذا ما جعل جلالة الملك حفظه الله يؤكد في خطابه أمام البابا هذه الحقيقة المؤسفة بقوله : “إنه من الواضح أن الحوار بين الديانات السماوية يبقى غير كاف في واقعنا اليوم، ففي الوقت الذي تشهد فيه أنماط العيش تحولات كبرى في كل مكان وبخصوص كل المجالات فإنه ينبغي للحوار بين الأديان أن يتطور ويتجدد كذلك. لقد استغرق الحوار القائم على “التسامح” وقتا ليس بيسير دون أن يحقق أهدافه”.
إن الدعوة المولوية لتطوير آليات الحوار الحضاري تعكس نضجا بالغا وبعد نظر عميق ،إذ لا يخفى أن العقود الأخيرة شهدت عددا كبيرا من ملتقيات الحوار الحضاري وسبق أن أعلن عام 2001 عاما للحوار بين الحضارات من طرف منظمة الأمم المتحدة وانبرى أنصار الحوار الحضاري لتكثيف الجهود وتسريع وتيرة اللقاءات من أجل التصدي لدعوات “صدام الحضارات”. ورغم ذلك لم تراوح جلسات الحوار مكانها ونتج عن ذلك انطباع واسع بأن مفهوم “حوار الحضارات” بحاجة إلى تطوير وتجديد كما دعا إلى ذلك جلالة الملك حفظه الله.
وإذا كان الحوار القائم على “التسامح” قد استغرق وقتا ليس بيسير دون أن يحقق أهدافه كما جاء في الخطاب الملكي السامي، فذلك لأن مفهوم “التسامح”Tolérance قد أضحى ذا حمولة ضعيفة تعني التساهل والصفح كما تعني استعداد المرء لأن يترك للآخر حرية التعبير عن رأيه ولو كان مخالفا، فالإنسان لا يتسامح إلا مع مَن بمقدوره أن يمنعه، إنه باختصار السماح المعطى من قبل أناس لأناس آخرين، ولعل هذه الحمولة الضعيفة التي يحملها مفهوم “التسامح” هي التي دفعت الكثير من العلماء والفلاسفة والمفكرين إلى استبدالها بمصطلح “الاحترام” Respect . ورغم ذلك ينبغي الاعتراف بأن مصطلح “التسامح” يبقى استعماله سائدا نظرا لعادة الاستعمال وجريان توظيفه للتعبير عن الفضيلة التي تناقض التعصب وضيق التفكير واللاتسامح.
التعارف المتبادل رفض للتطرف
يؤكد جلالة الملك حفظه الله في خطابه السامي على أن التطرف سواء كان دينيا أو غير ذلك يبقى مصدره انعدام التعارف المتبادل والجهل بالآخر.
ولاشك أن التعارف كمبدأ إنساني حضاري سام له أكبر الدور في منع التشدد وجميع أشكال التطرف ، فهو يقرب الأفكار والمسافات وينسج أواصر التعاون والتفاهم ويلغي بذلك المواقف المتطرفة التي من شأنها أن تخاصم الآخر وتعاديه وتقصيه. فالتعارف المتبادل الذي يحفظ مستويات الجهل بالآخر يحول دون حصول نزعات التطرف والتشدد، فالدعوة إلى التعارف والتواصل والانفتاح على الآخر ومد الجسور معه ترمي إلى تحقيق النزعة الإنسانية والأخلاقية التي ترفض النظر للآخر من خلال معايير الدين أو اللون أو العرق أو اللسان، كما تهدف إلى إزالة الأحقاد والعصبيات ومحو كل أصناف التطرف والعنصرية والكراهية مما يكفل المجال الواسع للتفاهم خاصة وأننا نعيش عصر ثورة المعلومات والتقدم المذهل في وسائل الاتصال الذي يجعل العالم بمختلف ثقافاته وحضاراته قرية كونية صغيرة من المفروض أن يتعارف سكانها ويفتحوا فيما بينهم نوافذ التفاهم والتقارب على أساس من احترام الخصوصيات الدينية والثقافية لكل الحضارات والشعوب.
إن الإسلام يدعو أتباع الحضارات والثقافات إلى أن يتعاملوا فيما بينهم على أساس الانتماء إلى أسرة إنسانية مشتركة تتفاعل في إطارها مختلف الروابط الحضارية بين الأمم والشعوب وهو أمر كفيل – كما يقول جلالة الملك حفظه الله- بتجنب مخاطر التطرف والسقوط في نزوعات العنف الناتجة عن جهل بحقائق الدين وقيمه المثلى “فليس الدين – كما يقول جلالته- هو ما يجمع بين الإرهابيين بل يجمعهم الجهل بالدين”. فالجهل بالدين يؤدي حتما إلى الجهل بالقيم الإنسانية المشتركة التي تجمع بين الجميع، والتي يكون الاقتناع بها واستيعاب مقتضياتها مدعاة لنسج جسور التواصل والتفاهم والتعاون ونزع فتيل الأحقاد والكراهيات والعصبيات المتطرفة التي طالما أنهكت الإنسانية. وهو ما يقتضي مواجهة التهديد للسلم والاستقرار العالميين الذي يشكله التطرف بتقوية الفهم المتبادل والاحترام وتعزيز القيم المشتركة بين الشعوب والثقافات والحضارات المختلفة.
من أجل تكريس مفهوم تعارف الحضارات.
لا شك أن ورود مصطلح “التعارف المتبادل” ست مرات في خطاب جلالة الملك حفظه الله يدل دلالة واضحة على اقتناع تام من جلالته بأهمية المفهوم والأبعاد التي يرمي إليها المصطلح في السياق الحضاري الراهن فضلا عن أهميته في تأصيل مفهوم الأسرة الإنسانية الواحدة ذات الأصل الإنساني الواحد ،وهو المفهوم الذي رمت إليه آية التعارف عندما دعت الجميع إلى التأمل في الأصل الإنساني والتفكير في دعم أسس التعارف والتفاهم بين مختلف الشعوب والحضارات في إطار الجماعة الإنسانية الواحدة التي قد تختلف مشاربها الدينية والإثنية والحضارية، ولكنها محكومة بضرورة التعامل فيما بينها بمنطق الأسرة الواحدة ذات الأصل الواحد.
وإذا كانت الدعوة إلى حوار الحضارات التي تعتبر من الخصائص المميزة للعقود الأخيرة من هذا القرن لم تؤت أكلها الكامل ولم ينجم عنها نتائج ملموسة وواقعية على كافة المستويات فإنما ذلك راجع بالأساس إلى عدم اكتشاف خصائص الحضارات الأخرى ومميزاتها وقيمها، وخاصة من جانب الحضارة الغربية التي ما فتئت تضمر الخوف والتوجس تجاه الحضارات الأخرى غير مكترثة بما تكتنزه تلك الحضارات من قيم ومثل وعناصر القوة والاستمرارية، ولعل هذا ما جعل جهات غربية كثيرة –إعلامية منها على وجه الخصوص- تعادي وتناوئ الإسلام وحضارته متجاهلة مقومات الإسلام الحضارية وقيمه ومثله العليا وروحه السمحة ودعوته السلمية.
إن كثيرا من الغربيين قد باتوا يجهلون عن الإسلام أبسط مبادئه وأدنى مرتكزاته الحضارية. من هنا تأتي ضرورة تعرف الطرف الآخر على منظومة الإسلام وحضارته في أزهى صورها وأنصعها وذلك قصد تمهيد السبيل للحوار والتلاقي والتفاهم، فالتعارف أساس وشرط كل مبادرة للحوار، إذ من مستلزمات نجاح لقاءات الحوار وشروطه إقامة جسور التعارف مسبقا واطلاع كل طرف على ما تختزنه حضارة الآخر في كل أبعادها الدينية والثقافية والفكرية قصد استيعابها وتمثلها جيدا من أجل الاتفاق على مواطن التلاقي وتعزيز القيم الإنسانية المشتركة والتحاور في مواطن الاختلاف والتنوع لأن من الخصائص الذاتية لأي حضارة انسانية القابلية للتناغم والتفاعل والتقارب مع الحضارات الأخرى.
إن تجديد البناء الحضاري للعالم أجمع بالتعارف بين الديانات والحضارات وبالتعاون المثمر بين الأمم والشعوب على هدي التعاليم الدينية والمبادئ الإنسانية يعتبر المهمة الرئيسة لأولي الحكمة والتبصر وذوي الإرادات الخيرة والعقول النيرة من جميع الحضارات وذلك من أجل بناء مستقبل آمن ومزدهر من أجل الأجيال الصاعدة.
وهذا ما أكد عليه جلالة الملك حفظه الله عندما قال في ختام خطابه: ” وبصفتَينا أمير المؤمنين والحبر الأعظم، فإننا مدعوون لأن نكون في نفس الوقت مثاليين وعمليين، واقعيين ونموذجيين، فرسائلنا تتسم بطابعها الراهن والأبدي في آن واحد، وهي تدعو الشعوب إلى الالتزام بقيم الاعتدال وتحقيق مطلب التعارف المتبادل وتعزيز الوعي باختلاف الآخر”.
إنها دعوة قوية وصادقة تلك التي وجهها أمير المؤمنين حفظه الله أمام ضيفه الكبير إلى ضرورة التزام الشعوب جماعات وأفرادا بقيم الاعتدال ومواقف الحكمة الرافضة لجميع أشكال التشدد والتطرف التي تعكس الجهل بالآخر وتسعى إلى رفضه ومعاداته. بالمقابل يبقى تعزيز الوعي باختلاف الآخر أمرا واجبا وملحا ، فبدون التعرف على الآخر والاعتراف به واحترامه في اختلافه لن يكون لقيم كالسلام والعدل والكرامة الإنسانية والتسامح والمحبة أي معنى، فثقافة السلام – مثلا- التي أحوج ما يكون العالم إليها اليوم بعد المستجدات العالمية الأخيرة تستوجب مبدئيا الإقرار بمشروعية الاختلاف واعتباره أمرا طبيعيا بين الناس ودليلا على التنوع الثقافي والحضاري، كما تستوجب الإقرار أيضا بالتعددية في المعتقدات الدينية والهويات الثقافية. ولا شك أن أول ما يترتب عن الإقرار بمشروعية الاختلاف والتعدد الثقافي السعي إلى بناء جسور التعارف والتعاون والتواصل.
ختاما يتضح أن مفهوم ” تعارف الحضارات” أوسع وأعمق من مفهوم ” حوار الحضارات” لأنه ينطلق من أرضية تكوين المعرفة والتأسيس عليها ،إذ التعارف المتبادل هو الذي يرسم شكل العلاقات وحجمها ومستوياتها وآفاق تطويرها، فالمشكلة إذن بين أتباع الديانات والحضارات ليس في عدم وجود قنوات الحوار فيما بينهم وإنما –كما أكد جلالة الملك حفظه الله- في عدم التعارف وسيادة الجهل وانعدام الوعي باختلاف الآخر.
إن العالم اليوم في أمس الحاجة إلى المساعي النبيلة والجهود المبذولة هنا وهناك من أجل اللقاء بين الزعامات الدينية المرموقة قصد تأسيس ثقافة التعارف المفضية إلى بناء ركائز التفاهم والوفاق على القواسم والمبادئ المشتركة في سبيل مواجهة مختلف التحديات الراهنة على المستوى الحضاري ومخاطرها وتطويق آثارها وانعكاساتها السلبية.
[1] – الحجرات: 13.
[2] – أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب البر والصلة والاداب، باب: الأرواح جنود مجندة.
[4] – آل عمران: 64.
[5] – كان ذلك يوم الخميس 13 أبريل 2000، وبعد سبعة أشهر من ذلك (11 نونبر 2000) بعث جلالته حفظه الله برسالة خطية إلى قداسة البابا وكل هذا يدل دلالة قوية على مستوى اهتمام جلالته بقضايا الحوار الإسلامي – المسيحي.
[6] – العنكبوت: 46.
[7] Michel Lelong : Deux fidélités, une espérance, chrétiens et Musulmans aujourd’hui- Paris 1979 p 140.
اترك تعليقا