مقالات وأبحاث

نعمة الأمن المجتمعي

نعمة الأمن المجتمعي

للدكتور حسن عزوزي

تعتبر مسألة المحافظة على أمن المجتمعات وسلامتها إحدى القضايا الجوهرية والأساسية التي أولاها الإسلام اهتماما خاصا ومميزا ، فالإسلام يحب الحياة ويقدسها ويحبب الناس فيها ،ولذلك يحررهم من الخوف ويرسم الطريقة المثلى لتعيش الإنسانية متجهة إلى غاياتها وأهدافها من الرقي والتقدم والتطور وهي مظللة بظلال الأمن الوارفة.

والمقصود بالأمن المجتمعي أن يكون الفضاء العام للمجتمع بجميع شرائحه متسما بالاستقرار والهدوء مع وجود القانون الذي يعطي كل ذي حق حقه.  إنه  الطمأنينة التي تنفي الخوف والفزع عن الإنسان فردا أو جماعة في سائر ميادين العمران الدنيوي في الزمن الحاضر والآتي “.

وبالرغم من عدم وجود تعريف محدد للأمن المجتمعي لارتباط هذا المفهوم بمفاهيم أخرى كالسلم الاجتماعي والتعايش السلمي إلا أن الجانب النفسي فيما يتعلق بالفرد وإحساسه بأن علاقته بالآخرين إنما هي علاقة أمن وتعاون تشكل نقطة الارتكاز في تحقيق الامن والسلام في المجتمع. ولعل الأمن والسلام الاجتماعي كما هي الغرائز الأخرى يصعب الإحساس بوجودها ولكن غيابها يخلق العديد من التعقيدات الحياتية بل يدمر الحياة المجتمعية بأسرها ، ولذلك عد توفر الأمن المجتمعي نعمة ليس بعدها نعمة ، وقد جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : “من أصبح آمنا في سربه معافى في بدنه عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها ” 1

إن الأمن المجتمعي هو كل ما يطمئن الفرد به على نفسه وماله ويضمن الشعور بالطمأنينة وعدم الخوف والاعتراف بوجوده وكيانه ومكانته في المجتمع ،فهو يرمز إلى الحماية من أخطار الجريمة والجوع والمرض والتلوث وانتهاكات حقوق الإنسان بصورة عامة ، وإذا لم تؤمن هذه الأمور أمكن من خلالها اختراق أمن المجتمع والإضرار بمصالحه . وقد أصبح موضوع الأمن المجتمعي مادة علمية ذات قيمة إنسانية وحضارية يتناقلها المفكرون والمتخصصون والعاملون في الحقل الاجتماعي في كتاباتهم ومنتدياتهم الفكرية ، خاصة وأن هذا المصطلح اتسع ليشمل مفاهيم ومضامين متعددة تتداخل مع مجمل أوضاع الحياة ليشمل الإصلاح الاجتماعي وتحقيق العدل وتوفير التعليم والصحة وغير ذلك مما يحتاجه الفرد في حياته اليومية.

ولما كانت العبادة السليمة لا يستقيم أمرها شأنها شأن عمارة الأرض إلا في ظل جو من الأمن المجتمعي فقد حرص الإسلام أشد الحرص على أن يتوفر للناس أمنهم ،ولذلك جعله الله تعالى إحدى المكافآت الكبرى التي يحصل عليها المؤمنون جزاء طاعتهم والتزامهم بالمنهج الرباني في حياتهم الخاصة والعامة ، قال تعالى : ” وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون”2

ولإدراك أهمية قضية الأمن المجتمعي كما حددها الإسلام فإن علماء الأمة ربطوا بين مستهدفات الأمن المجتمعي وغاياته وبين المقاصد الخمس التي ترمي إليها أحكام الشريعة الإسلامية وهي : الحفاظ على الدين والنفس والعقل والنسل والمال.

وترتبط كل من هذه المقاصد الخمس بعدد من الجوانب ذات الطبيعة الاجتماعية ، فحفظ الدين يرتبط بإقامة شعائر الله وتعاليمه ولذلك كانت الحكمة من وراء تشريع حد الردة منع حصول الفتنة بين المسلمين ،والحفاظ على النسل فيه صون للأنساب والأعراض بما يضمن استقرار المجتمع وسلامته بعيدا عن آفات الزنا وغيره من الأمراض المجتمعية ، أما الحفاظ على المال فيرتبط بالكسب الحلال والإنفاق الرشيد وما يرتبط بذلك من تكافل وتضامن بعيدا عن السرقة والغصب والنهب … وهكذا.

إننا لا نحسب أحدا يجادل في كون العالم اليوم يعاني من أزمة حادة ترتبط بمستوى أمنه واستقراره ، ولا أحد يماري في كون السبب الرئيس في ذلك يرجع إلى اضطراب المفاهيم والمواقف واعتلال القيم والأخلاق والمبادئ المشتركة . بالمقابل يظهر أن حكمة عقلاء العالم تؤكد على أن الظلم واختلال موازين العدل والأمن والسلام هي الأساس لكل ما يعانيه العالم من شرور ونزاعات وعدم استتباب الأمن والسلام.

ويبقى للأمن المجتمعي دلالة أساسية تعني الرفض على الدوام لكل أشكال الصراع أو مجرد الدعوة إليه أو التحريض عليه أو تبريره أو نشر ثقافة تعتبر التصادم واقعا غير مرتفع والعمل على تحويل مفهوم الحق في الاختلاف إلى إيديولوجية الاختلاف والتنظير لها ونشرها ، لذلك فإن انتشار اللاتسامح والفوضى والعنف يعني فرض نمط حياة معينة يسودها الانفلات الأمني وينجم عنها إضرار بحقوق المواطنين وتطلعاتهم إلى حياة آمنة ومستقرة .

ونظرا لأهمية الأمن المجتمعي في حياة الأفراد والمجتمعات باعتباره ليس وصفة جاهزة وإنما هو مرحلة وفضاء تصل إليه المجتمعات حينما تزداد وتيرة التفاهم والتلاقي بين مكوناتها المختلفة. فقد أولى الإسلام عملية حفظه وصيانته غاية فائقة فأحاطه بالضمانات وعمل على إيجاد وتحقيق مقوماته ، ولذلك عمل الإسلام على تحقيق صفة الأمن للمجتمع من خلال عدة طرق :

أولا : عن طريق إصلاح الفرد من خلال ضمان سلامة منهج الفرد واستقامة سلوكه ، فإن الأصل في الإنسان المسلم أنه لا يحتاج إلى رقابة القانون وسلطة الدولة لكي يرتدع عن الجرائم ، لأن رقابة الإيمان أقوى والوازع الإيماني في قلب المؤمن حارس يقظ لا يفارق العبد المومن ولا يتخلى عنه.

ثانيا : عن طريق إصلاح النظم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في المجتمع الذي تسود فيه روابط اجتماعية منبعها كلها الإيمان وهي بمجموعها تزين لأبناء المجتمع الخير بكل أشكاله وتوفر السكينة والطمأنينة كما تفتح أعمال الشر والعنف وتحذر منها بالترهيب ، وهذا كله ينتظم في دائرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي يمتاز به المجتمع المسلم.

ثالثا : عن طريق فرض العقوبات التي هي موانع لفئة من الناس عن المساس بأمن المجتمع ، فالإسلام لا يركن في هذا المقام إلى الوازع الفردي والرقابة الجماعية فحسب لأن بعض النفوس التي تميل إلى حب السيطرة والعدوان قد لا تكتفي بصيحات وتوجيهات التهذيب والإصلاح ولا بنصوص الوعيد الذي ينتظر المعتدين ، لذلك كان لابد من رادع مادي كي تنزجر الفئة الباغية ويعيش المجتمع آمنا.

من جهة أخرى يمكن تلخيص بعض مقومات الأمن المجتمعي فيما يلي :

1: توفر التماسك المجتمعي وذلك من خلال تعزيز الانتماء إلى وطن أو مجتمع واحد ، فالأمن المجتمعي بما يقدمه للمواطن من أسباب الطمأنينة والرفاهية يتطلب من هذا المواطن مساهمة فعالة في تحقيقه انطلاقا من شعور راسخ لديه بأن ما ينعم به غيره من الخير إنما ينعم به هو أيضا ، وأن ما يصيب غيره من شر يرتد عليه أيضا ، وأواصر الألفة والتماسك هي العامل الجامع والخيط الناظم بين أفراد المجتمع الواحد.

2: الإجماع والتوافق على مبادئ سلوكية وأخلاقية واحدة ، يشترك في الإقرار والعمل بها جميع المواطنين ، وهو ما يتحقق من خلال غرس الثوابت الدينية والوطنية الصحيحة التي تضمن نمو المجتمع واستقراره.كأن يشعر كل مواطن فيه انه مسؤول يتحمل قسطا من الأمانة وهو ما يقتضي ضميرا يراعي الله والناس والنفس من خلال المبادئ والقيم التي تضبط هذه المحاسبة. 3

3: توفر المؤسسات الأمنية والتربوية الكفيلة بتوجيه الإنسان ومساعدته على التشبع بنمط الحياة الاجتماعية الآمنة.

4: شيوع قيم التسامح ونبذ العنف باعتبارها الصور المثلى التي يخضع فيها الفرد قناعاته الخاصة لضرورات الحياة المشتركة والاعتراف بتنوع الآراء والقناعات وبضرورة التوفيق بين تبايناتها.

ويعتبر الاقتناع بقيم التسامح ونبذ العنف من الأهداف والغايات التي يرمي إليها توفر الأمن وشيوع السلم الاجتماعي ،وإذا كان الأمن المجتمعي يبدو أحيانا غاية وليس وسيلة فلأنه غاية ما تتمناه الشعوب والتجمعات البشرية لتعيش حياة الاستقرار والهدوء تحت مظلة القانون بعيدا عن الاضطراب والفوضى ولذلك عده القرآن الكريم نعمة ينعم بها المولى عز وجل على عباده ، قال تعالى ( فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف )4

إن قيم التسامح ونبذ العنف التي سنركز حديثنا عنها كنتيجة تلقائية لواقع المجتمع الآمن والمستقر هي تلك القيم التي يستعد من خلالها أفراد المجتمع للتعايش والرغبة في التعاون مع بعضهم البعض وإبداء روح التسامح ونبذ كل أشكال العنف والتعصب في إطار إقرار شامل للعدل الاجتماعي الذي ينبذ الصراع بين فئات المجتمع وتوافق تام على تقوية أواصر التعارف والتساكن الاجتماعي فضلا عن الإيمان القوي بحق التعدد الديني والتنوع الثقافي./..

 

الهوامش

1- الحديث أخرجه الترمذي في سننه ( حديث رقم 2347) والبخاري في الادب المفرد ( حديث رقم 300).

2- النور : 55.

3- د عباس الجراري : مفهوم التعايش في الإسلام ، مجلة ” الإسلام اليوم ” إصدار منظمة الايسيسكو ، العدد 14 / 1996 ص 26.

4- قريش 3-4.